الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وثانيه: إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين وأن علو فرعون لم يغننِ عنه شيئًا في دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة.وثالثه: أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه والأخذ بناصر المستضعفين ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم.ورابعه: الإشارة إلى حكمة {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} [البقرة: 216] في جانب بني إسرائيل {وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم} [البقرة: 216] في جانب فرعون إذ كانوا فرحين باستخدام بني إسرائيل وتدبير قطع نسلهم.وخامسه: أن إصابة قوم فرعون بغتة من قِبَل من أملوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر وأوقع حسرة على المستبصر، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو كما قال: {فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8] مع قوله: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا} [القصص: 9].وسادسه: أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تستأصل أمة كاملة لتوقع مفسد فيها لعدم التوازن بين المفسدتين، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذرة فلا يكون المتوقع فساده إلا في الجانب المغفول عنه من الأفراد فتحصل مفسدتان هما أخذ البريء وانفلات المجرم.وسابعه: تعليم أن الله بالغٌ أمره بتهيئة الأسباب المفضية إليه ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوي ولمَا قدّر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة ولأنجى موسى وبني إسرائيل إنجاء أسرع ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداء من إلقاء موسى في اليمّ إلى أن رَدّه إلى أمه فتكون في ذلك عبرة للمشركين الذين.{قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] وليتوسموا من بوارق ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانتقال أحوال دعوته في مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأخَرَة.وثامنه: العبرة بأن وجود الصالحين من بين المفسدين يخفف من لأواء فساد المفسدين فإن وجود امرأة فرعون كان سببًا في صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيلي فقالت امرأته {لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا} [القصص: 9] كما قدمنا تفسيره.وتاسعه: ما في قوله: {ولتعلم أن وعد الله حق} من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفرّ لهم منه.وعاشره: ما في قوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} من الإشارة إلى أن المرء يُؤتى من جهله النظر في أدلة العقل.ولما في هذه القصة من العبر اكتفى مصعب بن الزبير بطالعها عن الخطبة التي حقه أن يخطب بها في الناس حين حلوله بالعراق من قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير مكتفيًا بالإشارة مع التلاوة فقال: {طسم تلك ءايات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض} وأشار إلى جهة الشام يريد عبد الملك بن مروان {وجعل أهلها شِيَعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} وأشار بيده نحو الحجاز، يعني أخاه عبد الله بن الزبير وأنصاره {ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما} وأشار إلى العراق يعني الحجاج {منهم ما كانوا يحذرون} [القصص: 1- 6]. اهـ.
وقوله تعالى: {عَن جُنُبٍ} [القصص: 11] يظن البعض أن جنب يعني قريب مني، وهذا غير صحيح؛ لأن معنى الجنب ألاَّ تكون في مواجهتي، لذلك يقول تعالى: {والجار ذِي القربى والجار الجنب} [النساء: 36] إذن: الجار الجنب مقابل الجار القريب، فمعناه الجار البعيد.فكأن الفتاة حين ذهبت لتتبع سَيْر التابوت أخذتْ مكانًا بعيدًا منه، حتى لا يفطن أحد إلى متابعتها له.ومن ذلك قولنا: فلان تجنّبني، أو فلان واخد جنب مني أي: يبتعد عني، إذن: البعض يفهم هذه الكلمة على عكس مدلولها.ألاَ ترى لقول إبراهيم عليه السلام: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] وقوله تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 3] فالاجتناب يعني: الابتعاد.وفي تحريم الخمر قال تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فطلع علينا مَنْ يقول: هذا ليس نصًا في التحريم، لأنه لم يقُلْ حرَّمْت عليكم، فهي مجرد موعظة ونصيحة.ونقول: لو فهمت معنى {فاجتنبوه} [المائدة: 90] لعلمتَ أنها أقوى في التحريم من حرمت عليكم؛ لأن معنى حرَّمتْ عليكم الخمر يعني: لا تشربوها، أما {فاجتنبوه} [المائدة: 90] يعني: ابتعدوا عنها كليةً شُرْبًا أو بَيْعًا، أو شراء، أو نقلًا، أو حتى الجلوس في مجالسها.ثم تتحدث الآيات بعد ذلك عن تمهيدات الأقدار للأقدار، فتقول: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع}.التحريم هنا لا يعني التحريم بالنسبة للمكلَّف: هذا حلال وهذا حرام، إنما {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} [القصص: 12] يعني: منعناه أنْ يرضع من المرضعات اللائي يأتونَ بهن لتتقلب عليه المراضع واحدة بعد الأخرى، إلى أن تأتيه أمه.و{المراضع} [القصص: 12] جمع مُرضِع، ونقول أيضًا: مرضعة، ولكل من اللفظين مدلول، على خلاف ما يظنه البعض أنهما بمعنى واحد.واقرأ أول سورة الحج: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2].المرضِع: التي من شأنها أنْ تُرضع، وصالحة لهذه العملية، لكن المرضعة التي تُرضع الآن فعلًا، وعلة حِجْرها طفل يلتقم ثديها، وفي موقف القيامة ستذهل هذه عن طفلها من هَوْل ما ترى، إذن: فالتي تذهل هي المرضعة لا المرضع.والضمير في {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ} [القصص: 12] يعود على أخت موسى؛ لأنها ما زالت في مهمة تتبُّع الولد، وقد سمعها هامان تقول: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] فقال لها: لابد أنك من أهل هذا الولد؟ وتعرفين قصَّته، فقالت: بل ناصحون للملك مخلصون له. وفعلًا وافقوها على ما نصحتْ به؛ لأنهم معذورون، فالولد يأبى الرضاعة من الأخريات.ثم يقول الحق سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ}.وسبق أنْ وعدها الله: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] وها هو أوانُ تحقيق الوعد الأول، وهو بُشْرى بتحقُّق الوعد الثاني {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] لكن هذا في مستقبل الأيام، وسوف يتحقق أيضًا.وقوله سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ} [القصص: 13] يدل على أن الاسباب في يد المسبب سبحانه، فنحن الذين رددناه، لا أخته ولا فرعون؛ لأننا نُسيِّر الامور على وَفْق مرادنا، ونُمهّد لها الطريق حتى أننا نحول بين المرء وقلبه، ولينفذ قضاؤنا فيه.وقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] يعني: لا يعلمون أن وَعْد الله حق. اهـ.
|